تركيا المتغيّرة وجوارها
بكر صدقي
التعديلات الدستوريّة للعام 2010
في 13/9/2010، أيْ في صباح اليوم التالي للاستفتاء على التعديلات الدستوريّة، تقدّم عددٌ من مجموعات المجتمع المدنيّ في تركيا بشكوى إلى النيابة العامّة، مطالبةً بمحاكمة زمرة 12 أيلول الانقلابيّة (1980) بقيادة كنعان إيفرين. وكان من ضمن التعديلات (التي فازت بـ 58% من أصوات المستفتين) ما يتيح، للمرة الأولى في تاريخ الجمهوريّة، هذا النوعَ من المحاكمات. فقد رفعت الحصانة الدستوريّة عن القوات المسلّحة، ويمكن القول إنّ تركيا طوت بذلك صفحة الانقلابات العسكريّة بصورة نهائيّة.
قيل وكُتب الكثيرُ عن حزمة التعديلات هذه، واهتمّ الإعلامُ العربيّ أيضاً بتحليلها. نكتفي هنا بالإشارة إلى هذا التغيّر الجوهريّ: من نظامٍ قائمٍ على الوصاية البيروقراطيّة العسكريّة – المدنيّة، إلى مجتمع مدنيّ بات يملك القدرة والمبادرة على محاكمة العسكر. فهل انتهت بذلك مشكلاتُ تركيا؟ هل تحوّلتْ إلى نظام ديمقراطيّ وفقًا للمعايير العالمية؟ طبعاً لا. فما حدث مع إقرار تلك التعديلات هو فتحُ الطريق أمام السياسة ليتسنّى لها حلُّ ركامٍ من المشكلات المعقدة ـ وهو ما قد يحتاج إلى سنواتٍ كثيرة.
زلزال... وهزّاتٌ ارتداديّة
مع انتهاء دور الجيش في الحياة السياسيّة، حدث الزلزالُ المتوقّع في حزب المعارضة الرئيس، حزبِ الشعب الجمهوريّ. فانقسمتْ قيادتُه، في مطلع تشرين الثاني 2010، بين الزعيم الجديد للحزب كمال كلجداروغلو، والرجل القويّ أوندر ساف، السكرتير العامّ المزمن للحزب والذي يمسك ببنيته التنظيميّة ويدافع عن إيديولوجيّته الكماليّة المتحجّرة. ذلك أنّ الحزب العلمانيّ الذي أسّسه أتاتورك في العام 1924، ليَحكم وحده ويبني تركيا الجديدة من رماد الأمبراطوريّة العثمانيّة، تحوّل إلى حزب الدولة مع انتقال تركيا إلى نظام التعدديّة الحزبيّة. ولم يفز منذ الخمسينيّات في أيّ انتخابات عامّة بالأغلبيّة إلا مرةً واحدة، في السبعينيّات، بقيادة بولند أجويد. حتى هذا الانتصار اليتيم تحوّل إلى طعم العلقم في فم أجاويد لأنه لم يتمكّنْ من تشكيل حكومته إلا بفضيحة شراء نوّاب من خصمه (حزب العدالة) بأموال مافيات مهرّبي المخدِّرات، وتوزيرهم ليعيثوا فسادًا في مناصبهم، وليصبح أسيرًا سياسيًا لهم.
منذ ذلك الحين وحزبُ الشعب الجمهوريّ يعوِّل على استلام السلطة بغير طريق صناديق الاقتراع التي خذلتْه دائمًا. بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم، في العام 2002 بصورة خاصّة، تمحورتْ سياسةُ الحزب العلمانيّ حول السعي لإسقاط حكومة أردوغان بأيّ طريقة. وبموازاة ذلك، كانت الزمرُ الانقلابيّة داخل الجيش تضع الخطّة بعد الخطّة للقيام بالانقلاب العسكريّ الذي يعيد الأمورَ إلى نصابها من وجهة نظر القطاع الاجتماعيّ الذي يمثّله الجيشُ والحزبُ الجمهوريّ معًا – إضافةً إلى امتداداتهما في مؤسّسات القضاء الأعلى. وقد انكشفتْ تلك الخطط الواحدة بعد الأخرى منذ العام 2007 وصاعدًا.
الخلاصة أنّ الحزب الجمهوريّ الذي فقد أمله أخيرًا في الوصول إلى السلطة بمساعدة انقلابٍ عسكريّ، بعدما بات هذا محالاً بفعل قضيّة أرغنكون ثم التعديلات الدستوريّة الأخيرة، أصبح يواجه مصيرًا مأساويًا إذا لم يجدِّد نفسَه بما يلائم الوضعَ الجديد. وهكذا حدث الانقلابُ الزلزاليّ فيه على جرعتين: الأولى بإطاحة الزعيم المزمن للحزب دنيز بايكال، في مطلع أيّار (مايو) 2010، بواسطة مؤامرة الشريط الجنسيّ المصوّر، والثانية بتدخّل محكمة التمييز لصالح خلفه كلجداروغلو ضدّ جناح الحرس القديم المتشدّد في الحزب، مطلعَ تشرين الثاني (نوفمبر). هذا الوضع الجديد أنعش آمال دنيز بايكال بالعودة إلى قيادة حزبه، بعد الانتخابات العامّة في حزيران العام المقبل.
إلى أيّ حدّ يستطيع هذا الحزب أن يغيّر نفسه ويبقى كماليًا في الوقت نفسه؟ هذا سؤال برسم الأشهر القليلة المقبلة.
الغاية من هذا التوسّع في تحليل انشقاق حزب الشعب الجمهوريّ هي الإشارة إلى الديناميّات الاجتماعيّة القويّة باتجاه تغيير النظام القائم نحو نظامٍ أكثر انفتاحًا وديمقراطيّة، مندمجٍ مع العالم. فما حدث في حزب الشعب الجمهوريّ لم يكن معزولاً عن أحداث أخرى مشابهة في معظم المشهد السياسيّ التركيّ:
ـ فحزب السعادة الإسلاميّ، وريثُ تيّار النظام القوميّ بزعامة نجم الدين أربكان، شهد الانشقاق الأول المدوّي في الأحزاب السياسيّة التركيّة. إذ في غمرة الحملة السياسيّة الصاخبة حول التعديلات الدستوريّة، عقد مؤتمره العامّ في تمّوز (يوليو) الماضي. وحين فازت قائمة نعمان كورتلموش، ذي الميول التجديديّة، تمرّد الأبُ الروحيّ لتيّار الإسلام السياسيّ نجم الدين أربكان على هذه النتيجة، ونقل الخلاف إلى القضاء التركيّ، الذي حكم ببطلان المؤتمر ووضع الحزب تحت الوصاية القضائيّة إلى حين عقد مؤتمر استثنائيّ له في غضون شهر. فاستقال كورتلموش ومجموعتُه من الحزب وشكّلوا حزبًا جديدًا باسم حزب صوت الشعب، في حين عاد أربكان (الثمانينيّ) إلى قيادة حزب السعادة الذي انكمش حجمُه كثيرًا بعد الانشقاق.
ـ أما حزب الحركة القوميّة فقد ضربه الاستفتاءُ الشعبيّ على التعديلات الدستوريّة بطريقة مختلفة، واعتبره المراقبون أكبر الخاسرين في معركة الاستفتاء. فقد تمرّد عدد كبير من كوادره وأعضائه وقاعدته الاجتماعيّة على موقف قيادته المعارض للتعديلات، فصوّتوا لها بـ "نعم،" بعدما بُحّت حنجرةُ دولت بهتشلي وهو يحثّ جمهورَه على التصويت بـ "لا." ويتوقّع المراقبون أن يتعرّض هذا الحزبُ القوميّ المتشدّد لهزيمةٍ قاسيةٍ في الانتخابات البرلمانيّة القادمة.
ـ وجاءت الصدمة الرابعة من حزب العمّال الكردستانيّ المحظور والمسلّح. فالقنبلة البشريّة التي انفجرتْ في 31/10/2010 في ساحة تقسيم في قلب إسطنبول، وأدّت إلى إصابة 27 شخصًا بجروح بين عناصر شرطة ومدنيين، كشفتْ عن انشقاق داخليّ في حزب أوجالان الذي بدأت الدولة تفاوضه مؤخّرًا في سجنه على جزيرة إيمرالي للبحث في سبل إيجاد حلّ سلميّ للمشكلة الكرديّة. ففي الوقت الذي تبنّت فيه منظمةُ "نسور الحريّة في الأناضول" العمليّة التفجيريّة، وأعلنتْ رفضها لأيّ وقفٍ لإطلاق النار ضدّ الدولة، عبّر أوجالان عن غضبه من تلك العمليّة وأعلن عن التزام حزبه بتمديد وقف إطلاق النار من طرفٍ واحد حتى موعد الانتخابات العامة. كذلك عبّرت القيادةُ الميدانيّة للحزب الكردستانيّ عن تبرُّئها من هذه العمليّة، وهدّدتْ بمحاسبة من يخْرق وقفَ إطلاق النار المعلن. فإذا تذكّرنا أنّ "نسور الحريّة" جزء عضويّ من حزب العمّال الكردستاني يهتمّ بتنفيذ العمليّات داخل المدن، فهمنا أن عمليّة ميدان تقسيم هي بمثابة أكبر انشقاق علنيّ يشْهده الحزبُ في تاريخه، وهو موجّه مباشرةً لضرب المفاوضات التي بدأتْ للتوّ بين الدولة وأوجلان.
المغزى من مجموع هذه "الهزّات الارتداديّة" هو أنّ الزلزال الأصليّ يحدث في قلب المجتمع التركيّ. ووفقًا لعدد من ألمع مفكّري تركيا، كإتيين محجوبيان وعلي بيرام أوغلو ومحمد آلتان وغيرهم، فإنّ القوة الرئيسة الدافعة إلى التغيير إنّما هي القطاعُ المتديّن في المجتمع. هذا القطاع، المحافظُ في نمط حياته وسلوكه (المعبَّر عنه رمزيًا بحجاب النساء)، اكتسب في العقدين الأخيرين ثقة بالذات بعدما اكتشف قوته الاجتماعيّة – السياسيّة، وتذوّق طعمَ النجاح الاقتصاديّ والثراء الماديّ، وجمع بين محافظتِه الاجتماعيّة وانفتاحِه على العصر والعالم (من قناة التعليم والبزنيس) والتوقِ إلى الانعتاق من الوصاية البيروقراطيّة للدولة المركزيّة. المفارقة أنّ النظام العلمانيّ هو مطلب هذا القطاع بالذات. فالمفهوم الأتاتوركيّ للعلمانية عنى بالنسبة إلى أكثريّة المجتمع أمرين: تدخّل الدولة في تعريف الدين وفي كلّ شؤونه، وتهميش المجتمع بأسره لصالح نخبة بيروقراطيّة ضيقة ممسكة بالسياسة والاقتصاد معًا. لا أحد يتحدّث في تركيا عن إصلاح دينيّ لتكييف الإسلام مع شروط العصر، بل المطلب الأول هو كفّ يد الدولة عن رسم صورة الدين. أما التكييف المذكور فهو يتمّ عمليًا، وخارج تدخّل الدولة، ومن غير تناقض مع "أصولٍ" مفترضةٍ للإسلام.
حزب العدالة والتنمية هو مجرّد انعكاس لقوّة الدفع الاجتماعيّة المذكورة في ميدان السياسة. على أنه يجب التأكيدُ أنّ هذه القوّة لا تقتصر على البيئة الإسلاميّة المحافظة، التي تكمن أهميّتُها في تحولها الحديث، في العقدين الأخيرين، إلى هذا الموقع. فبموازاة الليبراليّة الاقتصاديّة التي صعدتْ في بلدات الأناضول وحوّلتْها إلى مدنٍ مزدهرةٍ تقيم علاقاتِها التجاريّة مع مدن العالم من غير المرور بالمركز (أنقرة واسطنبول)، ازدهرتْ منظّماتُ المجتمع المدنيّ، في العقدين نفسيهما، كانعكاسٍ مباشرٍ لارتفاع التعليم والتمدين (من بلد يعيش سبعون في المئة من سكّانه في الريف حتى الستينيّات، إلى انقلاب هذه النسبة إلى سبعين في المئة لصالح سكان المدن حاليًا) واتساع رقعة الطبقة الوسطى. وفي هذا الملفّ سنقرأ وصفًا للحركة النسائيّة المزدهرة، جديدُها أيضًا الجناحُ الإسلاميّ في هذه الحركة التي يمكن التمثيلُ بها لمنظّمات المجتمع المدنيّ عمومًا. وهناك منظّمة أخرى تجمع في إطارها الرافضين للخدمة العسكريّة الإلزاميّة لأسبابٍ تتعلّق بالضمير؛ وهي (على صغرها) فرضتْ مؤخّرًا على الجيش والحكومة طرحَ تغيير نظام التجنيد الإجباريّ إلى شكل لم يتبلورْ بعد من أشكال الجيش الصغير المحترف. وقد تحوّل هذا الموضوع إلى مادّة للنقاش في الرأي العامّ، اضطر أردوغان نفسَه إلى إطلاق بعض الوعود بحلٍّ وسطٍ ما لهذا الموضوع. كما تضغط على الحكومة منظماتٌ تمثّل العلويين للاعتراف بهويّتهم المذهبيّة الخاصة وبدوْر عبادتهم، ولإلغاء درس الديانة (وفقًا للمذهب السنّيّ الحنفيّ) كدرس إجباريّ في التعليم الأساس ــ وهو أمرٌ يشاركهم في المطالبة به كثيرٌ من المعبّرين عن البيئة الإسلاميّة المحافظة من منطلق وجوب عدم تدخّل الدولة في شؤون الدين.
تركيا كقوة دوليّة صاعدة
بموازاة التحوّلات الداخليّة، التي يمكن تلخيصُها ببعديْن هما نموّ الاقتصاد وقوة المجتمع التركييْن، اندفعتْ تركيا في علاقاتها الخارجيّة في مغامرةٍ جريئةٍ غيّرتْ صورة هذه الدولة من النقيض إلى النقيض. فبعدما كانت على مدى عقود القرن الماضي دولة معزولة في محيطها المباشر "يحيط بها الأعداءُ من كلّ الجهات" وفقًا لقناعةٍ سادت نحو قرن من الزمان، نسجتْ علاقاتٍ ودّيّةً مع جميع خصوم الأمس، وأصبحتْ قوة جالبة للاستقرار، ومتدخّلةً إيجابيًا لحلّ المشكلات في الشرق الأوسط والبلقان والقفقاس. لقد تمكّن فريق أردوغان – داوود أوغلو من تحويل خصومات الأمس القريب الإيديولوجيّة إلى شراكات اقتصاديّة وسياسيّة طموحة. وبات الدور التركيّ مطلوبًا من الغرب والشرق على السواء: فتجده ناشطًا في لبنان وفلسطين، وعلى خطّ المفاوضات السوريّة – الإسرائيلية، والإيرانيّة – الغربيّة، والروسيّة – الجيورجيّة. ولم تقتصر اهتماماتُ الدبلوماسيّة التركيّة على الجوار القريب، بل امتدّت من الصين إلى أميركا الجنوبيّة.
كثيرًا ما تحلو للأتراك مقارنةُ معجزتهم الاقتصاديّة بجوارهم العربيّ: "لقد أصبحنا في المرتبة 17 بين القوى الاقتصاديّة العالميّة، على الرغم من حرماننا الريعَ النفطيّ." غير أنّ المقارنة الأهمّ، في رأيي، هي في نوع الاهتمامات بين الرأي العامّ في كلٍّ من تركيا والعالم العربيّ. ففي الوقت الذي يمثّل فيه الإسلامُ السياسيّ عندنا مشكلةً نفشل في إيجاد حلٍّ لها، تطوّر الإسلامُ السياسيّ التركيّ إلى نموذج بات هو الحلّ للمشكلات الوطنيّة، إضافةً إلى إسهامه في البحث عن حلولٍ لمشكلات الغير. وفي الوقت الذي يكاد فيه الرأيُ العامّ التركيّ يُجمع على حريّة النساء في ارتداء الحجاب أو عدمه، نرى بعض الحكومات العربيّة يلجأ إلى مكافحة النقاب. وفي حين أضيف إلى ذلك مؤخّرًا، في بعض بلداننا، حظرُ إشهار الرموز الدينيّة لمخاوفَ طائفيّةٍ ربّما، ينشغل الرأيُ العامُّ التركيّ بوجوب الاعتراف الرسميّ بخصوصيّة العلويين وحريّتهم المعتقديّة. وفي الوقت الذي يمضي فيه السودانُ نحو التقسيم، ولبنانُ والعراقُ واليمنُ على كفّ عفريت من منظور الوحدة الوطنيّة، يتحدّث المثقفون الأتراك عن نهاية نموذج الدولة - الأمّة بارتياحٍ وثقة.
كلّ هذا يشير إلى أنّ تركيا وجوارها العربيّ يعيشان في زمنيْن مختلفين.
دمشق
* كاتب سوريّ، ومترجم عن التركيّة.
تعليقات
إرسال تعليق